الاغتصاب في القرى النائية: من يدفن رأسه؟

Al-Akhbar

admin

Health

Viewed : 675

 

خلال شهرين، تعرّضت أربع فتيات في ثلاث قرى جنوبية نائية لتحرّش جنسي وصل في حالتين إلى الاغتصاب. الخبر الذي مرّ عابراً في التقارير الأمنية والوسائل الإعلامية، يحفر عميقاً في نفوس الضحايا وعائلاتهنّ. ضحايا يبدو المجتمع قاصراً عن التماهي معها بما أنها تنتمي إلى فئة الفقراء، المعوّقين والمهمّشين. يصعب نشر النصّ أدناه من دون اعتذار مسبق. اعتذار على أي إزعاج، أو جرح قد يسبّبه للمعنيين به: الضحايا، الأقارب، وأهالي القرى التي زرناها. اعتذار لأننا دخلنا، فهمنا، ورغم ذلك ها نحن نكتب. كانت تجلس القرفصاء، مديرة ظهرها لنا. تبحث في حقلها الصغير أمام المنزل عن عيدان للموقدة. تسمع صوت خطى قريبة منها، تلتفت، وتنتفض فجأة. تروح يداها ذات اليمين وذات اليسار، ويرتفع صوتها بالصراخ: «صحافة؟ أنت صحافة؟» تسأل بصوت مرتجف، وكأننا الشرطي الذي جاء ليلقي القبض على أحد أبنائها. تلتفت نحو السيدة التي ترافقنا، وتقول لها بصوت يحمل الكثير من الرجاء رغم الانفعال: «إذا صحافية قولي لها ما تقرّبش صوبنا». تحاول السيدة أن تقول شيئاً «طولي بالك يا حجة»، فتصرخ مجدداً مستعينة بيديها، فيما تنهمر الدموع من عينيها المختفيتين خلف تجاعيدها: «كيف بدي طوّل بالي؟ قالوا لي حطّوا الخبر على الانترنت»... تصمت لحظة، وتكرّر وكأنها تريدنا أن نفهم خطورة ما حصل «حطوا الخبر ع الانترنت... شو بدي أعمل بحالي؟ شو بدي أعمل؟». نحن في قرية محيبيب. ضيعة صغيرة عند الحدود مع فلسطين المحتلة. تبعد عن بيروت 115 كلم، ولا يدخلها إلا من يقصدها، فالطريق المؤدية إليها هي أحد الشوارع الفرعية لبلدة ميس الجبل. وكثيرون يختلط عليهم الأمر، فينسبون إلى ميس الجبل كلّ ما يجري في محيبيب، رغم أن الأخيرة تحتضن مقام النبي بنيامين، شقيق النبي يوسف، وأخذت اسمها منه. المرة الوحيدة ربما التي انتشر فيها اسم هذه البلدة كانت خلال حرب تموز، على خلفية المواجهات البطولية التي جرت فيها (Source Link). لم تكن زيارة «الأخبار» للبلدة مرحّباً بها. فقد دخلنا إليها بعد يوم واحد من نشر خبر عن اغتصاب فتاتين فيها (Source Link). معظم المقيمين هنا لم يقرأوا الجريدة، فهي لا تصل إليهم، لكن يكفي أن يخبرهم أحد أبناء البلدة بأن «الأخبار» أخطأت ليجمعوا على هذه الحقيقة. يقول أحد فاعليّاتها بلهجة حادة: «هل تنشرون كل ما يقال لكم؟ اكتبي عندك إذاً: قتل خمسة أشخاص، وتعرّض عشرة آخرون للضرب، و...». ردة الفعل الغاضبة هذه كانت متوقعة، بل هي أحد دوافع زيارة البلدة. ما لم يكن متوقعاً هو السبب. الرجلان غاضبان لأن الجريدة نشرت خبراً غير صحيح، سيتوليان هما أنفسهما شرحه وتفنيده لنا. ليسا الغاضبين الوحيدين في البلدة، «مختار وأهالي محيبيب» بادروا أمس إلى إرسال بيان توضيحي يرفض «استغلال حادثتين مأسويتين اجتماعيتين لتشويه السمعة والمتاجرة بأعراض الناس»، ويناشد «الضمير الباقي في أعماق من يحاول تشويه السمعة والشرف يتبزوير الحقائق ونقول لهم من المعيب أن ترقصوا على جراح أهلكم». لكن قبل ذلك، فلنعد إلى لحظة وصولنا إلى البلدة. في الطريق إليها، صعوداً، نلتقي بسيدة. يدور حديث قصير، قبل أن نخبرها عن القصد من الزيارة. عندها، ينتهي الحديث. لم يعد هناك ما يقال. السيدة الثانية كانت أكثر ليناً، تحفظت عن الكلام في الموضوع مع تمنّ بفهم سبب ردّها لطلبنا «نحن ضيعة صغيرة، وما بيصير أحكي على بنات ضيعتي». نكمل صعوداً، إلى منزل نعرف أصحابه. نشرب فيه الشاي، مع جبنة بيضاء صناعة منزلية، من دون أي بادرة إيجابية للحديث عن الموضوع. السيدات الثلاث اللواتي جالسناهنّ يرفضن رفضاً قاطعاً «التشهير بالفتاتين وفضحهما مجدداً». عدم الحديث عن الأمر «مبرر إنسانياً وأخلاقياً ودينياً» تقول السيدة التي تولّت دفة الحديث. تضيف بلهجة الواثق «ماذا ستستفيدون من الأمر؟ نحن نحاول أن ننسى ونتجاوز، وأنتم تثيرون الموضوع». خلال محاولات الإقناع، يصل السيد هاني جابر إلى المنزل. ونفهم لاحقاً أن السيدة اتصلت به. لا يخفي الرجل الخمسيني استياءه مما كتب في الجريدة. «لا، ليس صحيحاً أننا دفنا رأسنا في الرمال. لم يكن ينقص إلا أن تكتبوا أننا مَدَدْنا سفرة للمعتدي». الأخير «أكل قتلة مرتبة، ولم ينقذه من بين أيدينا إلا مخابرات الجيش». نحكي هنا، عن حادثة الاغتصاب الأولى التي تعرضت لها فتاة عشرينية قبل نحو شهر ونصف. «ماذا نفعل إذا كان القانون يسامح من يعلن عن رغبته في الزواج بالفتاة التي اعتدى عليها؟ ماذا كان يجب أن نفعل؟ أخطأنا لأننا سترنا عليها؟». أما الحادثة الثانية، فوقعت يوم الثلاثاء في الثامن من الجاري. الضحية فتاة تعاني من تثلث الصبغية. أرسلتها أمها إلى منزل أوت إليه عائلة من اللاجئين السوريين قبل يومين اثنين، لتسألهم عما إذا كانوا بحاجة إلى شيء ما. هناك حاول الرجل التحرّش بها والاعتداء عليها. «لم تكن زوجته في البيت، كان وحده مع أولاده» يقول جابر. «وبمجرد أن سمعنا صراخها، تدخّل أهالي القرية وصدّوه وضربوه قبل أن تصل القوى الأمنية وتقتاده إلى مخفر ميس الجبل». «الأخبار» أخطأت إذاً، بالقول إن الفتاة الثانية تعرّضت للاغتصاب. فيما يؤكد تقرير الطبيب الشرعي، الذي حصلنا على نسخة منه، عدم حصوله. «زيارتنا كانت مفيدة، هكذا نوضح الأمر في الجريدة» نقول. عندها، تفتح الأبواب المغلقة. لا مانع من زيارة الفتاتين والاطمئنان إليهما. «والعائلات السورية المقيمة في القرية؟». هي أيضاً، يمكن زيارتها. نزور منزل واحدة من العائلات الأربع المقيمة في القرية. يقول الرجل المقيم في البلدة منذ أربع سنوات إنه صدم بما حصل «صحيح أنه يشوّه سمعة بلد، لكن بالتالي كلّ شخص مسؤول عن أعماله». أما زوجته التي التحقت به منذ ثمانية أشهر، فتؤكد أنه لم يتعرّض لهم أحد في البلدة بأذى. البيت الأول الذي قصدناه، هو الذي جرى فيه المشهد أعلاه. والسيدة التي رفضت دخول الصحافة هي والدة الضحية. كانت قد تلقت للتو اتصالاً من بيروت يطلب فيه منها أخو الفتاة عدم السماح للصحافة بالدخول. قال لي «الخبر صار ع الأنترنت. قلت له تع (تعال) خذها من هنا». تقنعها السيدة التي رافقتنا أننا هنا لنصلح الخبر ونكذّب ما ورد فيه. «رح تكذبوا اللي انقال؟ رح تكذبوه؟». ليست وحدها من يسأل، بل شقيق الفتاة الذي يعاني بدوره من مرض عصبي. ندخل إلى غرفة استقبال الضيوف في المنزل المتواضع. «لحظة سأناديها، إنها تصلّي» تقول الأم وتخرج مسرعة. دقائق وتدخل الفتاة. الحجاب يكاد يخفي وجهها، تماماً كما تخفي عبايتها الطويلة كامل جسدها. تفرك يديها وتجلس على الكنبة مرتبكة. كانت قد سمعت أمها تقول إنها سترسلها مع أخيها إلى «المصحّة». لا نجرؤ على طرح أي سؤال، نكتفي بالقول «جايين نطمن عليكي». لكن دموعها تنهمر. تقول بأسى واضح «خذوني من هون. ما بدي إبقى هون». تبكي أمها وتواسيها «يا أمي، ما تبكي، بعرف إنك بريئة». كانت تصلي قالت أمها. هل تحتاج هذه الفتاة إلى الصلاة لكي يراها الله؟ سؤال فيه من الكفر، بقدر ما فيه من الإيمان. لكنه يفرض نفسه عندما لا يعود للكلام معنى. الفتاة المريضة تبكي بقهر. جسدها كلّه يرتجف. ونحن نشعر بسخافة موقفنا وبأننا نتلصص على حياة هذه العائلة. وجودنا هو الذي سبّب انهمار هذه الدموع. القرية بعيدة ونائية، وكثيرون لا يسمعون بها. طُرد المعتدي منها، وتحاول العائلة التعالي على جراحها. لمَ كتبنا عنها؟ ولمَ عدنا مجدداً إليها؟ ما الذي يمكن أن نفعله ونحن نحكي عن فتاة معوقة في قرية نائية؟ من يهتم بأمرها؟ هي ليست ابنة عائلة ثرية، ولا تدرس في مدرسة راقية، عدا عن أنها معوقة. فتاة مثلها، لا أحد يهتم بآلامها. لا يتماهي معها أحد، بما أنها لا تشبههم. نكاد نقتنع بأن الكتابة عما حصل معها مشاركة في الجريمة التي ارتكبت بحقها. مشاركة في «فضحها»، بما أن مقالة في جريدة لن تغيّر المجتمع وتقنعه بأن ما حصل ليس فضيحة. الأفكار نفسها، والشعور نفسه سيعاودنا في منزل الضحية الثانية. الفتاة العشرينية تعرضت للاغتصاب من قبل عامل سوري كان يقيم قرب منزلها. تودّد إليها طويلاً، وهي «على بساطتها»، كما يجمع أهالي البلدة مؤكدين أنها تعاني من تخلّف عقلي، ارتاحت إليه. وعندما خلا له الجو، استدرجها وارتكب فعلته. لم يكن أهل هذا البيت يحتاجون إلى دخول الصحافة إليه لكي يصمتوا. يبدو واضحاً أن الصمت يخيّم عليه منذ زمن. تكاد الكلمات تخرج ناقصة من فم الأم، هذا قبل أن تصمت بدورها. ولا كلمة. ولا حرف. الأب يدخن السيجارة قرب الباب، الأم تجلس على كرسي، مقابل ابنتها الجالسة قربنا على الكنبة. وخلفهما جلست شقيقتها. «هل أنت بخير؟». لا إجابة. «هل تريدين أن تقولي شيئاً؟». لا صوت. نظرات زائغة، لا تستقرّ في مكان. يمرّ الوقت قاتلاً، قبل أن نتجرأ على السؤال: «قالوا لنا إنك بدأت تتعلمين الخياطة؟». تنظر إلينا نظرة من لم يعجبه السؤال، ثم تجيب «إيه. عم بتعلّم خياطة». هكذا بلهجة من لا يجد جدوى في تعلّم هذا الشيء، لكنها تقوم به نزولاً عند رغبة من ارتأوا أن ذلك قد يموّه عنها. ننظر إلى أمها، عساها تقول شيئاً، لكنها تنضم إلى ابنتيها. أُسقط بيدها المسكينة. وكذلك الوالد الذي كان يدخل إلى الغرفة ويخرج منها، ماجّاً سيجارته من دون أي تعليق. لا يعزّي العائلتين المصير الذي انتهى إليه المعتديان. الأول أوقف في مخفر ميس الجبل ونقل إلى مكتب حماية الآداب في حبيش، ويجري البحث عن الثاني لأنه مطلوب في جرائم أخرى. لا يغيّر هذا شيئاً في ما حصل معهم، وفي نظرة الناس إليهم. ربما، لهذا السبب، قرّر والد فتاة تقيم في قرية حولا المجاورة أن ينفي ما قيل عما تعرّضت له ابنته. نحكي هنا عن اغتصاب سائق باص مدرسي طفلة من قريته (مركبا) والتحرّش بثانية من القرية المجاورة. يرفض الرجل الحديث عن الموضوع، «القصة حصلت في مركبا وزجّ بابنتي فيها». لم يتقدّم الرجل بدعوى، واكتفى بتغيير سائق الباص الذي كان يقلّ ابنته إلى مدرسة ذوي الاحتياجات الخاصة في بنت جبيل. هذا ما فعلته بلدية مركبا أيضاً. طلبت من أحد أبنائها تولي مهمة نقل خمسة من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى مدرسة بنت جبيل، «وقد عادت الطفلة التي تعرّضت للاغتصاب بعد أسبوعين من الحادثة، إلى مدرستها» يقول رئيس البلدية جهاد حمود. أما المعتدي «فقد وكّلت البلدية محامياً لمتابعة الدعوى التي رفعتها عائلة الضحية ضده، ونحن ننتظر صدور القرار الاتهامي»، علماً بأن الرجل لا يزال ينفي ما نسب إليه. لا يوافق حمود على السماح بلقاء عائلة الفتاة، ولا حتى عائلة المعتدي. «ما تبحثين عنه ترف إخباري، لا جدوى له. الإعلام آذى الفتاة أكثر مما أنصفها». نصدّقه إذا تذكرنا الصورة التي خرجت بها والدة الفتاة إلى الإعلام. شرحت بالتفصيل ما حصل مع طفلتها، التي ظهرت معها في الشريط التلفزيوني، من دون أن يقوم الصحافي بأي جهد ليمحو ما لا يجب مروره على الشاشة. لا يكفي أن توافق الأم هنا على الحديث لكي يصبح مباحاً للصحافي بأن ينشر كل ما يتوافر له من معطيات. إذا كان من أمر مفيد، يقول حمود «اذكري أن لا مركزاً حكومياً يعنى بذوي الاحتياجات الخاصة في المنطقة، علماً بأن هناك حالات كثيرة». هل يصدّق حمود أن ذكر هذا الأمر في الجريدة مفيد فعلاً؟ المعوّق فريسة سهلة لمَ يتحرّش رجل ناضج بشخص معوّق؟ عن هذا السؤال يجيب طبيب نفسي، اختار عدم الإفصاح عن اسمه لكي لا يحرج الضحايا. يقول إن المرتكب في حالة مماثلة «يسعى إلى علاقة مع شخص لا يعيق عملية الاغتصاب». المعوق هنا هو الإنسان الضعيف، الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه. ويختاره المعتدي لأنه الفريسة الأسهل «خصوصاً أن الدفاع عن النفس قد يدفعه إلى الذهاب بعيداً في جريمته فيقتل ضحيته». السبب نفسه هو الذي يضاف إلى الاعتداء على الأطفال، مع فارق أن من يرتكب هذا الاعتداء يكون يعاني أيضاً من سلوك مرضي هو البحث عن صغار. وغالباً ما يمكن القول إن من يعتدي على أطفال صغار، يفعل ذلك في إطار عائلته أيضاً «هذا افتراض علمي، ويجب التأكد من الأمر» يقول. وعما يجب القيام به لكي تتجاوز الضحية ما تعرّضت له، ينصح الطبيب بتوفير الحماية وإخضاع الضحايا لجلسات علاج. لكنه لا يبدي تفاؤلاً بإمكان حصول ذلك في القرى الفقيرة والنائية «مهما كانت النوايا حسنة، تبقى الثقافة الاجتماعية هي الأقوى».

 

Source Link

Blog Roll